غنى الصباح شاحبا لتتدحرج حبات جمان من على الزهر الندي، بعدما ذرفها الليل
وهو هارب من الضياء لتسقط في هوينا على الأرض الظمآى، حتى تشربها بنهم كما
اعتادت ليلى أن تشرب دموعها الحارة وهي تقف صامتة في انتظار الحافلة
لتقلها إلى مدينة سكيكدة..فكم لعبت بها الأيام وطوحتها نزواتها لتقطع حبال
الود حبلا حبلا دون أن تدري إلى أن تهاوى المركب تعبث به الصخور وتتقاذفه
الأمواج دون هوادة .. فها هي ذي تهيم شوقا لماض تولى ولم يترك لها سوى
ومضاته كشريط عابر يناوش ذاكرتها..فكم كانت تحسد نفسها عندما كانت وحيدة
والديها اللذين لم ينجبا غيرها ليجعلا منها محراب عبادة ..لقد كان والدها
إطارا مهما بالدولة وكانت والدتها إنسانة لم تر من الحياة سوى جانبها
الوردي بعدما ترعرعت في بيت عز لتنتقل إلى عز أبقى وأجمل ..فلم يكن يشغلها
شيء سوى ابنتها الوحيدة التي أنجبتها بعد عملية قيصرية ، وبعد صراع طويل
مع العقم لتصبح كالأرض البور التي أزهرت بعد قحط طويل . أما والدها فلم
يكن له هم سوى تلك الزهرة التي جاد به ربيع القدر لتلون حياته
الباهتة..فأفرط في دلالها وراح يقتني لها كل ماهو مميز حتى لا يشبهها أحد
. وبالفعل كانت لا تشبه أحدا ..فلقد كانت آية في الجمال والنبوغ ..
واكتمل بدر الأيام وليلى تنعم بحياة هادئة لا يعكر صفوها سوى الحلم العابر الذي يراود كل فتاة في مثل سنها
حول فارس الأحلام..إلى أن تحصلت على شهادة البكالوريا وبتفوق ليأبى والدها إلاّ أن يدخلها جامعة خاصة بباريس بلد الجن والملائكة .
سافرت ليلى وسافرت معها أحلام والديها لتستقر هناك وتتخصص في دراسة العلوم السياسية ، فانكبت
على الدراسة بكل ما أوتيت من قوة وعنفوان علها تختصر السنوات وتمحو المسافات لتعود إلى والديها
وهي تحمل حقائبها بيد وثمرة نجاحها بأخرى ..غير أنها مالبثت أن تعثرت بفتى
أحلامها قبل سنة من التخرج لتعود إلى والديها وهي مبهورة بذلك الملاك الذي
جمعتها به الأقدار دون سابق إنذار..وهكذا إصطدمت الأماني وتخاصمت النوايا
لتنقلب حياة ليلى رأسا على عقب بين ليلة وضحاها.. فالوالد المتفهم لم
يوافق على زواج ابنته الوحيدة بهذه السرعة ، وطلب منها التريث قليلا
ليتعرف أكثر على هذا الشبح الذي طفا فجأة على نهر حياتها الهادىء ليعكر
صفوه ويحوله إلى هدير صاخب جرف كل محاولات الوالدين في إقناع الفتاة ليأتي
القرار الفيصل حيث خير الوالد ابنته بين أمرين لا ثالث لهما..فإما أن
تختار والديها .. أو تمضي في طريقها الذي رسمته مع ذلك الغريب الذي لا
تعرف له موطنا ولا عنوان.
وتدفق سيل الأيام باردا صاخبا ليقطف أمل الوالدين في تراجع وحيدتهما عن
قرارها..إذْ فوجىء الوالد ذات صباح بابنته وهي تبثه قرارها برنة هاتف
فاسودت الدنيا في وجهه لكنه قرر أن يكمل معها رسالته إلى آخر المطاف ،
فأبلغها بأنه سيحقق لها أمنيتها شرط أن يمحوها من حياته وإلى الأبد..
فأقام لها عرسا لم تر عين بشر مثله وأهداها مالم يهدِ والد لابنته ثم طلب
منها أن تغادر المدينة في صمت لتقيم بمدينة عنابة حيث إقامة زوجها .
وجاء يوم الرحيل لتحضر العروس نفسها للسفر دون مبالاة بحزن والديها اللذين
رفضا حتى سماع وداعها .. فانزويا بركن من أركان البيت ، وقبل أن تخرج قدمت
لها أمها علبة صغيرة وأخبرتها بأنها آخر هدية من أبيها الذي يرجوها ألاّ
تفتحها إلا عندما تصير أُما علها تدرك ما لم تستطع إدراكه الآن.
رحلت ليلى ورحلت معها البسمة والصفاء.. حيث كانت كوردة قُطفت من منبتها
ليتبخر معها الندى الذي طالما روى ظمأ ذلك البيت لتتدهور صحة الوالد بعدما
أعطى فأسرف في عطائه، وعاقب فأنصف في عقابه ..لأنه لم يعاقب ابنته فحسب بل
عاقب نفسه أيضا وراح يترشف كأس الندم قطرة قطرة وهو يسترجع شريط حياته
الماضية مع ابنته ليدرك بأن إفراطه في دلالها قد أنساها كيف يمكن أن تكون
بارة بوالدها ، وتحترم رغبته وهاهو ذا يذبل يوما بعد يوم ضائعا بين
كبريائه وشوقه لوحيدته التي أشاحت بوجهها عنه في أول منعطف ليبقى الطريق
طويلا باردا يحجب منتهاه هول الضباب ويبقى هو واجما في مكانه لا حول ولا
قوة له أمام قدر لا مفر من الإستعار بلظاه..
وذات ليلة من ليالي سكيكدة الباردة تلبدت الغيوم لتزيد قلبه النازف وجعا
..فلا جرعة الضغط أسكنته ولا حقنة الأنسولين هدّأت روعه لتأخذه زوجته على
جناح السرعة إلى أقرب مشفى .. وكم هالتها الصدمة عندما أُدخل جناح العناية
المركزة ..بقيت ليلتها تعد نجوما لا ترى وتمسح دموعا لا تتوقف ليشرق
الصباح موحشا شاحبا وتنطفىء معه شمعة الأب المنكسر -إلى الأبد - وهو يهتف
باسم ابنته التي مزقت الوعد ونكثت العهد وطارت كحمامة بيضاء ترفل بثياب
أفراحها بعدما هجرت حدائقه غير مبالية بأحزانه ليهجر بدوره حياتها ويتركها
تتجرع كؤوس الحسرة والندم.
نزل الخبر كالصاعقة على قلب ليلى التي كانت تنعم بحياة لم ترَ عروسٌ مثلها
..لقد جابت أكثر البلاد مع زوجها الذي أهداها أغلى المجوهرات وأكبر
العقارات ، وألبسها الخز والتبر وجعلها تعيش في عالم الحب والأمان ..لكنها
انتفضت كالطير الذبيح وهي ترى بأن ذلك العز لم يعد يساوي شيئا مادام قد
جرف الحضن الدافىء الذي ما ألفت سواه ، بعدما ودعته على أمل العودة إليه
يوما .. فجاءت على جناح السرعة يخالجها أمل ضئيل في أن يكون الخبر كاذبا
..فلقد تركت والدها يتمتع بالصحة والشباب ..كيف يمكن أن يهوي كنجم منير
والليل بعدُ في أوله ..وهي التي كانت تأمل أن تعود المياه إلى مجاريها قبل
بزوغ فجر جديد..لكن ليس كل مايتمنى المرء يدركه.
وصلت ليلى بيت والدها لتجد ما تواترته الألسن ليس بإشاعة وإنما هي حقيقة
ملموسة وما أمرها من حقيقة نسجت هي بعض خيوطها ..وما أعمقه من جرح عندما
صُـدت الأبواب في وجهها ليمنعها أحد أقاربها من دخول البيت تنفيذا لرغبة
والدتها التي لا تريد بدورها أن تراها أو تسمع أخبارها فانكبّت على عتبة
البيت وهي تصرخ لتبلل الأرض بدموع حارة كالندم غائرة كالذنب موجعة كالفراق
..وراحت ترجوهم أن يسمحوا لها برؤية والدها لآخر مرة لتودعه وتستسمحه
لكنها طردت من قِبل والدتها لتعود من حيث أتت وهي تلملم آهاتها وتضمد
جراحاتها التي لا ولن تندمل .. لتنزوي في بيتها بعدما راح زوجها يخفف عنها
أحزانها بشتى السبل ، لكن ما بقلبها أعمق من أن تصل إليه يد بشر.
وتدفق سيل الأيام على غير هدى وليلى تكابر في صمتها وتتلظى بحزنها لتفاجأ
ذات صباح بما هو أدهى وأمر ..لقد تم القبض على زوجها سيد الأعمال وهو يعقد
إحدى صفقاته لترويج السموم البيضاء ..وكم كان وقع الفاجعة على قلبها
..فهذا هو من باعت لأجله أعز الناس !!..فكم نبيع الأحبة بالفتات دون أن
ندري ..كما هي حال ليلى التي باعت عمرا برمته لترضي نزوة عابرة .. وها هي
ذي تجني الدمعة تلو الدمعة والآهة تلو الآهة وهي تُجلد في اليوم ألف مرة
بسوط الندم ..لكن أنّــى للندم أن يجدي وقد فات أوان الإعتذار والإعتراف
بالخطأ.
لم تقو ليلى على حمل مواجعها المتوالية تباعا لتنهار مع آخر صدمة تصفعها
وهي تكمل الشهر السابع من حملها البائس .. فانزوت بعيدا عن الناس وراحت
تبيع ماأمكنها أن تبيع من ممتلكاتها التي أهداها إياها زوجها لتوكل له
أكبر المحامين في البلد بعدما صودرت كل أملاكه.
وبعد فترة وجيزة صدر الحكم كسهم قاتل صوبته يد الأقدار نحو قلبها الأبكم ،
لتستعجله يد العدالة ..فلقد حكم عليه بعشرين سنة نافذة غير قابلة للطعن*.
وشاءت الأقدار ولا مرد لمشيئتها أن تضع ليلى حملها في الشهر السابع من -
فرط المآسي - لتنجب طفلة بهية الطلعة سمتها رحيمة إحياء لذكرى والدها عبد
الرحيم ..وبعد فترة وجيزة قُبلت كعاملة بسيطة بأحد مصانع عنابة بعدما
أعياها العوز واستنفدت كل ما بحوزتها مما لم يصادر من أموال زوجها .
وذات يوم بينما كانت ترتب بعض صورها وتترشف معها مر الذكريات ، وقعت بيدها
تلك العلبة التي كانت آخر هدية من والدها عندما طلب منها ألا تفتحها إلا
عندما تصير أما ..ضغطت عليها بلهفة واشتياق ،وراحت تضمها إلى صدرها وهي
تشعر وكأن والدها مازال بداخلها يرقبها بعين العفو والغفران.
فتحت العلبة بيد وجلة لتجد قصاصة من الورق كتب عليها ( بنيتي الحبيبة إذا
أصبحت أما في يوم من الأيام أرجو ألا تربي أبناءك كما ربيتك ..لأنني لم
أعطكِ سوى الفقاع ،وفاقد الشيء لا يعطيه )
وما كادت تكمل تلك العبارة حتى انفجرت باكية كما لم تبكِ من قبل ..فكم كان
والدها عظيما ، وكم كانت متنكرة لتلك العظمة التي نامت في صمت وتركتها
تلبس ثوب الأحزان إلى الأبد ..ولم تكد بعض الأيام تتدحرج من عقد أشجانها
حتى فوجئت بأمها وهي تطرق باب غرفتها المستأجرة طالبة حضانة البنت
بمرضاتها أو بالقوة وهي تقول لها ( يجب أن أعيد تربيتك في تربية هذه
البريئة حتى تكون رحيمة بك إذا مااحتجتِها يوما ،ولا تمحو اسمك بجرة قلم
كما محوتنا من حياتك ) بعثرت هذه العبارة مضمخة بدموع مريرة ثم مضت وهي
تحمل حفيدتها دون مبالاة بليلى التي رسمت مصيرها بيدها لتبقى وحيدة بين
جدران باردة تحكي قصتها لكل من يصادفها وهي تعمل ليل نهار لتوفر قوت يومها
وثمن تذكرة سفر إلى مدينة سكيكدة كل أسبوع إن أمكن لتقف أمام قبر والدها
لساعات طويلة وهي تدثر جسدها النحيف من أعاصير الندم ببعض الذكريات علها
تسلو حينا أو بعض حين
الإثنين مارس 02, 2015 1:18 am من طرف الشامخ الكثيري
» دعــــاء
الأحد يناير 04, 2015 4:37 pm من طرف ريتاج
» شرح كيفيه دخول رومات الشات عن طريق برنامج النمبز nimbuzz من جهاز الكمبيوتر
الجمعة أكتوبر 12, 2012 7:01 am من طرف زمن المصالح
» توقف القلم
الخميس ديسمبر 22, 2011 1:26 pm من طرف دمعة فرح
» معلــــومه+صورة لنتشارك
الثلاثاء ديسمبر 20, 2011 8:47 pm من طرف دمعة فرح
» رحيلك ياأمي
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 6:41 am من طرف دمعة فرح
» اهنيكم بعيدنا الفطر السعيد
الثلاثاء أغسطس 30, 2011 9:43 am من طرف دمعة فرح
» حنظله غسيل الملائكه رضى الله عنه
الثلاثاء يوليو 19, 2011 5:28 pm من طرف دمعة فرح
» اي نوع قلمك ؟؟؟
الخميس يونيو 09, 2011 1:53 pm من طرف دمعة فرح
» ترويض الكلب ( قصيرة )
الإثنين مايو 30, 2011 6:56 am من طرف ماهر طلبه