أنا لا أتعاطى الكتابة و لست محترف كلمة ، و ما سأرويه لكم
هو الذي كتبني على مر السنين ، وشم كلماته في ، فأنا أقرأها عليكم موشومة
في الذاكرة و الروح بالإبر و الكحل المسحوق ، بالدم المسفوح.
لست أدري على ماذا تقبض أصابع يدي الآن ؟يختفي هذا الوجه
النبيل الذي طالما تطلعت إليه مفتونا حينا وحزينا أحيانا . يطل الآن وجه
غابت ملامحه ، وجه مطموس لم يبق منه سوى الإطار الذهبي للنظارة الطبية ،
وشعر أبيض يطل عند الأذنين و الجبين .
تلكم هي "فطوم « الظهر المحدودب تركبني فوقه وتقف أمام الشويهات تدندن بكلام لا أذكر منه إلا النغم الحزين.
لم أنس المناوشات التي كانت بيننا ، أجذب منديلها و أنا
فوق ظهرها ، فينكشف شعرها الأبيض فأغرز فيه أصابعي مقهقها ، تنزلي عن
ظهرها ضاربة إياي على مؤخرتي .
-أيها الشقي ، خذ العصا و اذهب أدر تلك النعجة المجنونة .
آخذ منها العصا راكضا نحو النعجة ، وتبقى هي تصلح شعرها و
منديلها . و أعود لاهثا فتقبلني على وجهي وقد أحنت لي ظهرها المحدودب
لأمتطيه .
ولزمت الفراش ذات عشية فخرجت مع جدي مسعود بالغنم ، وعندما
عدنا مساء كنا قد تأخرنا ، حتى إن أنوار المدينة كانت قد أوقدت فتلألأت من
بعيد كالنجوم تبعث في الوحشة و الغموض .
أدخلنا الغنم إلى زريبتها ، وكان جدي مسعود ينادي عليها فلم تكن ترد عليه ، دخلنا البيت فكانت ما تزال نائمة وقد عم الظلام المكان .
أوقد جدي مصباح البترول ثم دنا منها ، وضع يده على أنفها ، ثم على معصمها .وفي صمت غطى وجهها ورفع إلي وجها شاحبا .
-لقد ماتت وحيدة .
بقيت واقفا في الركن أنظر تارة إليه و إليها تارة أخرى .لم
أكن أعي تماما الذي حدث ، لكني كنت أحس أن شيئا غريبا قد حصل ،ثم رأيت جدي
يجلس عند رأسها وقد وضع خديه على يديه ، ولما رفع رأسه كنت أجلس عند
ركبتيه في حيرة . ربت على رأسي وقد أبصرت في عينيه دمعتين سارع إلى مسحهما
.واندهشت: كيف جدي يبكي ؟!
قام في حزم فتناول إناء وخرج إلى زريبة الغنم ، ووجدت نفسي وحيدا مع جدتي ، دنوت منها وكشفت عن وجهها ، ناديتها هامسا
-جدتي ،جدتي ...
وكأن الغرفة رددت صوتي فبدا لي غريب الجرس كأنه ليس بصوتي
، ثم وضعت يدي على أنفها كما فعل جدي فكان صلبا باردا كالثلج ، رددت عليها
الغطاء وعدت إلى مكاني منكمشا .
ركبني خوف غامض ، أحسست أن جدتي تحولت إلى شيء غريب لا تربطني به علاقة ...
دخل جدي و الإناء في يديه يقطر بحليب الغنم و قد شحب وجهه
أكثر . قصد الموقد الغازي في أقصى الحجرة و راح يعد الحليب .كان الصمت
يزيدني خوفا ، و ضوء المصباح الشاحب أحال موجودات البيت أمامي أشباحا .
قلت و أنا ألتصق بجدي :
- من الذي موت جدتي ؟
- ذهبت إلى ربها ، و كلنا يذهب يوما إلى هناك .
لم أستوعب ما قال ، كانت ما تزال ممدة في فراشها ، فكيف يقول ذهبت ؟ ولم أشأ السؤال ، كان صوته مخيفا .
ناولني كأس الحليب و كسرة خمير .
- تناول عشاءك لتقوم و تنام .
و بينما كنت أتعشى كان هو يعد لي فراشي . و قادني من يدي .
- ادخل فراشك ، سآتي بعد قليل أنام إلى جوارك .
وكنت أنظر إليه من تحت الغطاء ، فكان قابعا عند رأسها يبكي
في صمت . ولا أظن أنه نام تلك الليلة ، فقد أفقت في الصباح على لغطه حيث
كان يعيد ترتيب البيت .كان منهمكا في عمله فلم ينتبه إلي حين تسللت إلى
الخارج ووقفت في الساحة أنظر إلى السماء ، هناك يسكن الله كما قالت لي
جدتي ذات مرة . واحترت كيف تذهب إليه جدتي ؟ أي سلم عملاق ذاك الذي يبلغ
السماء ؟ و قررت بيني وبين نفسي أنني لن أذهب إلى هناك، أفضل أن أبقى في
الأرض .
و تحولت إلى الزريبة ، فاجتزت السياج الذي نسجه جدي بالقصب
ليفصل بين الساحة و الجدول . غسلت وجهي بمائه ثم تبولت على جذع الشجرة كما
يفعل كلبنا "سحاب » و عدت إلى جدي.
وجدته أنهى ترتيب البيت ، و قد غطى جدتي بإزار أبيض نظيف ،
و شرع في إعداد القهوة . أشربني قهوتي و لف في مهل سيجارة أوقدها من نار
الموقد ، و غرق لحظات طويلة مع القهوة و السيجارة حتى ظننت أنه هو الآخر
يريد أن يذهب إلى ربه فقلت :
- جدي بماذا نصعد إلى الله ؟
فنظر في وقال كأنما يخاطب شخصا غيري:
- بيد عزرائيل.
ثم قام فجمع أدوات القهوة نظر إلي نظرته الخاصة حين يريد مني شيئا .
- سعد ، سيقصد بيتنا اليوم الناس ولا يليق بك أن تبقى هنا ، فاخرج بالغنم إلى مرج عيطر .
و أطعته :
- نعم يا جدي .
مسح على رأسي و ناولني العصا ، وسقت الغنم يتبعني كلبنا "سحاب" . و لم أفهم لماذا لا يليق بي البقاء هناك ، فرحت أرقب البيت من بعيد.
كان القوم يفدون فرادى و جماعات ، وبعض النسوة كلما دخلت
إحداهن البيت ارتفع إلي النشيج و النواح . ثم رأيت بعضهم يتجه إلى المقبرة
. ولما ارتفعت الشمس انتصب خط بين البيت و المقبرة لا ينقطع من رائح و غاد
.
وكان شيء ما يحز في نفسي ، أحسست أن نهار اليوم له طعم خاص
، كأنه عرس وليس بعرس ، فيوم ختاني هكذا حصل لبيتنا ، حركة و ناس و نساء ،
لكن مذاق اليوم كئيب ، حتى الغنم بدت عليها حال من الوجوم فكانت ترعى
هادئة ، ومنها التي نامت تجتر في سكون .
حين توسطت الشمس السماء اشتد النواح في البيت ، ارتفع إلي
النشيج فبلغ مسامعي متسقا منسجما كأنه هزيج ، فتحرك في أعماقي البكاء ،
ورأيت القوم يخرجون يحملون شيئا يشبه السلم وضعوا عليه جدتي و قد غطوها
بحائك أحمر و مشوا صوب المقبرة .
كان "سحاب " إلى جواري ينظر معي اتجاه الموكب .وحين اختفوا
عن ناظري أدركت أني حرمت ركوب الظهر المحدودب إلى الأبد ، و أن جدتي ستصعد
إلى السماء ، فهم حملوها على السلم لتصعد به.
عند الأصيل سقت الغنم إلى الزريبة و إحساس عميق من الحزن
يقبض مجامع قلبي . وجدت القوم غادروا بيتنا إلا رجلا يبدو عليه أنه من أهل
المدينة ، حاسر الرأس يمشط شعره إلى فوق ، يتحدث مع جدي و يداه تلعبان في
جيبه بالنقود.
سمعت جدي يقول له :
- كثر الله خيرك يا سي السعيد سنتحدث عن هذا فيما بعد.
و كان الرجر لايصرف نظره عني . عندما استأذن و انصرف وجدت
نفسي مع جدي وحيدين فوق الدكة . كنت أشعر بالجوع ، و هممت بالدخول إلى
البيت ثم تذكرت أني سأجده خاليا من جدتي ففضلت البقاء إلى جوار جدي و أن
أغرق معه في صمته ، غير أنه التفت إلي و همهم :
- هه، ياسعد .
- جدتي ، لماذا ذهبت إلى ربها ؟ من الذي يعد لنا الطعام ؟ من الذي يغسل لنا الثياب ؟ من الذي يحلب الغنم ؟
و أحسست بغضب مفاجئ و قد تكورت غصة كبيرة في حلقي :
- ومع من ألعب أنا ؟
و بكيت ، سالت دموعي غزيرة ، الدموع التي كانت تتجمع منذ
الصبح انسكبت تلك الحظة كالأنهار .ضمني جدي إلى صدره الواسع المليء بالشعر
الأبيض و ردد:
- لا تبك ، أنا الذي أعد لك الطعام و أغسل لك الثياب ، أنا الذي تلعب معه .
و بقيت لحظات أشهق في حضنه ، ولم أكن أحس بالآمان ، هيهات
أن أحس ذلك ، ضاعت جدتي ، وربما أحس جدي مثلي ، فلقد كانت لحيته ترتعد فوق
رأسي .
وكان المساء ظلاما في قلبي.
...........................................
وظلت صورة جدتي محمولة على الأكتاف ، مغطاة بالحائك الاحمر، لاتبرح عيني ،وجهها وقد تصلب ، صوتي الذي رددته جدران البيت ...
في الليل كنت ألتصق بظهر جدي ، أخاف أن تدخل علي جدتي بحائكها الأحمر و عينينها المطفأتين .
وكانت حسرة عارمة في قلبي ، كيف تحولت جدتي - نبع الحنان الدافق- إلى ذلك الكائن المرعب ؟
لم أطلع جدي على مخاوفي ، كان سينهرني لأن الرجل لا يخاف ، و أنا رجل في نظره.
كنت أخاف الليل ، أخاف الذئاب حين تتعاوى و تتنادى، أخاف نباح كلبنا "سحاب" حين يتغير صوته بالليل .
وكان جدي يحاول أن يصنع مني بطلا ، كان يقسو علي من غير
هوادة ، يعلمني كيف أغسل ثيابي و كيف أخيطها ، كيف أعد الدراهم ، كيف أكون
حذرا إذا ما نبح « سحاب " في الليل، فأخرج ولو مرة واحدة أتفقد الغنم .
كان يأخذني معه إلى السوق ، ندورفي رحبة الغنم ، يغرز أصابعه الخشنة في ظهر الكبش ، ثم يساوم البائع في غلاظة :
- كم أعطوك في هذا ؟
- خمسين .
- بع ، ستحمى الشمس و تنفض السوق .
و أتساءل مع نفسي ، ما دخل جدي في الرجل ؟
و يلتفت إلي :
- الغنم غالية اليوم يا سي سعد ، السوق القادم نأتي بالكباش .
نشتري مؤونة أسبوع من قهوة و سكر و زيت و غيرها ، ثم نعرج
على مقهى متطرفة ، فيجلس جدي إلى أناس لا أعرف منهم إلا سي السعيد الذي
بقي مع جدي إلى المساء يوم موت جدتي . يتحدثون ساعة ثم يستأذن جدي ونعود
إلى البيت على البغلة الشهباء ، نخرجها من الإصطبل العمومي محملة بأغراض
الأسبوع ، يردفني خلفه و ينخرط في حديث متشعب مع جماعة المتسوقين يقطعون
به الطريق ، و أنشغل أنا بعد أعمدة الهاتف المتسلسلة مأخوذا بحفيف الأسلاك
و بتلك الفناجين المرصوصة في رؤوس الأعمدة !! من يشرب بها القهوة ؟
حتى إذا وصلنا كانت المسافة التي قطعناها قد أنهكت قواي فيعفيني جدي يومها من مشاركته أشغاله.
وكانت الأيام الأخرى تتكرر، أخرج بالغنم صباحا مع "سحاب "
إلى المرج ، ويبقى جدي يعمل بالبستان ، أو يكنس الزريبة ، و يعد الغداء .
حتى إذا انتصف النهار جاءني يسوق معي الغنم إلى الزريبة.
كانت الأيام بلا طعم ، في المرج مع الغنم تنقبض روحي ،
يزيدها انقباضا مشهد الغربان تحوم على مقربة مني ، ثم تحط بعيدا على هضبة
جرداء .
كنت أكره الغراب ، أود لو أمسك يوما غرابا فأحرقه ،إذ كان
يخيل إلي أن الغراب كائن شرير ، و أنه حين ينعب إنما يريد أن يقول شيئا ما
، شيئا لا أعرفه بالتحديد ، ولكنه شيء كريه لا يطاق .
و سألت جدي مرة :
- ما الذي يقوله الغراب عندما ينعب ؟
فتذمر قائلا:
- وهل أنا سيدنا سليمان حتى أفهم لغة الطبر ؟
ثم أمسكني من أذني :
- اسمع أيها الأحمق ، دع عنك الأسئلة الفارغة ، اسألني عن
الأمور الهامة ، عن القيمة التي يبلغها الكبش في السوق القادم مثلا ، عن
الأنسب ، بيع الكباش أم النعاج ؟ حدثني حديث الكبار يا سعد.
و لما أرخى أصبعه كان ظفره قد انغرز في لحمة أذني ، تدفق الدم غزيرا فاندهشت ولم أبك .
ابتسم و قال في زهو :
- هكذا أريدك شجاعا ، اذهب اغسل أذنك.
كان جدي يقتل في طفولتي بمطرقة من خشب ، تماما كما يفعل
بالعجل عندما يقتل فحولته كي يغدو ثورا . و مع ذلك كنت أحبه ، لم يكن في
وسعي إلا أن أحبه ، كان الإنسان الوحيد في حياتي ، لم أكن أعرف من العالم
إلا جدي و "سحاب" و الغنم .
كانت المدينة القريبة منا عالما مستغلقا لا أدخله إلا أيام
السبت مع جدي . أما القرية المتوسدة سفح الجبل فكانت لي دائرة غامضة ، أرى
فيها أطفالا يتسلقون الشجر يصيدون أفراخ العصافير ، ولم أكن أقترب منهم .
كان البيت المبتدأ و المرج المنتهى ، بينهما الجدول و بستان جدي .
كانت القرية تجذبني بسحرها ، بأطفالها ، بضبابها الفضي و
خضرتها الداكنة ، أهيم وجدا إذا أصبح الضباب يلف القرية بغلالته الشفافة ،
تأخذني نشوة غامضة فأود لو يخلق لي الله جناحين فأطير مع العصافير أحوم
حول القرية ، فوق المدينة . كنت أحب العصافير ، أتخيلهم ملائكة الجنة التي
حدثتني عنهم جدتي فطوم إذ قالت لي بأن للملائكة أجنحة مثل العصافير ،
فأثارت في حبا مبهما للطير .
كان جدي يتضايق من وقوفي الطويل صباحا أمام الجدول مستقبلا القرية فيصيح بي :
- دع عنك الخمول ، يجب أن تكون شاطرا ، أن تكون كالمقص في يد الحلاق الماهر.
كان قاسيا معي مثل المحراث ، مثل يديه المشققتين .
وتذكرت وعده لي عشية الرجوع من دفن جدتي بأنه سيكون الذي ألعب معه فامتلأت ثورة على إخلافه الوعد .
كان عالمي موحشا ، و بروحي انقباض ، وبالغ جدي في قسوته
حتى كدت أتخيله الرجل الشرير الذي يمكن أن يكونه الغراب . ربما أخفى وراء
قسوته رحمة و حنانا ، لكن المؤكد عندي أن الأمان ضاع منذ أن غاب الظهر
المحدودب إلى الأبد.
هو الذي كتبني على مر السنين ، وشم كلماته في ، فأنا أقرأها عليكم موشومة
في الذاكرة و الروح بالإبر و الكحل المسحوق ، بالدم المسفوح.
لست أدري على ماذا تقبض أصابع يدي الآن ؟يختفي هذا الوجه
النبيل الذي طالما تطلعت إليه مفتونا حينا وحزينا أحيانا . يطل الآن وجه
غابت ملامحه ، وجه مطموس لم يبق منه سوى الإطار الذهبي للنظارة الطبية ،
وشعر أبيض يطل عند الأذنين و الجبين .
تلكم هي "فطوم « الظهر المحدودب تركبني فوقه وتقف أمام الشويهات تدندن بكلام لا أذكر منه إلا النغم الحزين.
لم أنس المناوشات التي كانت بيننا ، أجذب منديلها و أنا
فوق ظهرها ، فينكشف شعرها الأبيض فأغرز فيه أصابعي مقهقها ، تنزلي عن
ظهرها ضاربة إياي على مؤخرتي .
-أيها الشقي ، خذ العصا و اذهب أدر تلك النعجة المجنونة .
آخذ منها العصا راكضا نحو النعجة ، وتبقى هي تصلح شعرها و
منديلها . و أعود لاهثا فتقبلني على وجهي وقد أحنت لي ظهرها المحدودب
لأمتطيه .
ولزمت الفراش ذات عشية فخرجت مع جدي مسعود بالغنم ، وعندما
عدنا مساء كنا قد تأخرنا ، حتى إن أنوار المدينة كانت قد أوقدت فتلألأت من
بعيد كالنجوم تبعث في الوحشة و الغموض .
أدخلنا الغنم إلى زريبتها ، وكان جدي مسعود ينادي عليها فلم تكن ترد عليه ، دخلنا البيت فكانت ما تزال نائمة وقد عم الظلام المكان .
أوقد جدي مصباح البترول ثم دنا منها ، وضع يده على أنفها ، ثم على معصمها .وفي صمت غطى وجهها ورفع إلي وجها شاحبا .
-لقد ماتت وحيدة .
بقيت واقفا في الركن أنظر تارة إليه و إليها تارة أخرى .لم
أكن أعي تماما الذي حدث ، لكني كنت أحس أن شيئا غريبا قد حصل ،ثم رأيت جدي
يجلس عند رأسها وقد وضع خديه على يديه ، ولما رفع رأسه كنت أجلس عند
ركبتيه في حيرة . ربت على رأسي وقد أبصرت في عينيه دمعتين سارع إلى مسحهما
.واندهشت: كيف جدي يبكي ؟!
قام في حزم فتناول إناء وخرج إلى زريبة الغنم ، ووجدت نفسي وحيدا مع جدتي ، دنوت منها وكشفت عن وجهها ، ناديتها هامسا
-جدتي ،جدتي ...
وكأن الغرفة رددت صوتي فبدا لي غريب الجرس كأنه ليس بصوتي
، ثم وضعت يدي على أنفها كما فعل جدي فكان صلبا باردا كالثلج ، رددت عليها
الغطاء وعدت إلى مكاني منكمشا .
ركبني خوف غامض ، أحسست أن جدتي تحولت إلى شيء غريب لا تربطني به علاقة ...
دخل جدي و الإناء في يديه يقطر بحليب الغنم و قد شحب وجهه
أكثر . قصد الموقد الغازي في أقصى الحجرة و راح يعد الحليب .كان الصمت
يزيدني خوفا ، و ضوء المصباح الشاحب أحال موجودات البيت أمامي أشباحا .
قلت و أنا ألتصق بجدي :
- من الذي موت جدتي ؟
- ذهبت إلى ربها ، و كلنا يذهب يوما إلى هناك .
لم أستوعب ما قال ، كانت ما تزال ممدة في فراشها ، فكيف يقول ذهبت ؟ ولم أشأ السؤال ، كان صوته مخيفا .
ناولني كأس الحليب و كسرة خمير .
- تناول عشاءك لتقوم و تنام .
و بينما كنت أتعشى كان هو يعد لي فراشي . و قادني من يدي .
- ادخل فراشك ، سآتي بعد قليل أنام إلى جوارك .
وكنت أنظر إليه من تحت الغطاء ، فكان قابعا عند رأسها يبكي
في صمت . ولا أظن أنه نام تلك الليلة ، فقد أفقت في الصباح على لغطه حيث
كان يعيد ترتيب البيت .كان منهمكا في عمله فلم ينتبه إلي حين تسللت إلى
الخارج ووقفت في الساحة أنظر إلى السماء ، هناك يسكن الله كما قالت لي
جدتي ذات مرة . واحترت كيف تذهب إليه جدتي ؟ أي سلم عملاق ذاك الذي يبلغ
السماء ؟ و قررت بيني وبين نفسي أنني لن أذهب إلى هناك، أفضل أن أبقى في
الأرض .
و تحولت إلى الزريبة ، فاجتزت السياج الذي نسجه جدي بالقصب
ليفصل بين الساحة و الجدول . غسلت وجهي بمائه ثم تبولت على جذع الشجرة كما
يفعل كلبنا "سحاب » و عدت إلى جدي.
وجدته أنهى ترتيب البيت ، و قد غطى جدتي بإزار أبيض نظيف ،
و شرع في إعداد القهوة . أشربني قهوتي و لف في مهل سيجارة أوقدها من نار
الموقد ، و غرق لحظات طويلة مع القهوة و السيجارة حتى ظننت أنه هو الآخر
يريد أن يذهب إلى ربه فقلت :
- جدي بماذا نصعد إلى الله ؟
فنظر في وقال كأنما يخاطب شخصا غيري:
- بيد عزرائيل.
ثم قام فجمع أدوات القهوة نظر إلي نظرته الخاصة حين يريد مني شيئا .
- سعد ، سيقصد بيتنا اليوم الناس ولا يليق بك أن تبقى هنا ، فاخرج بالغنم إلى مرج عيطر .
و أطعته :
- نعم يا جدي .
مسح على رأسي و ناولني العصا ، وسقت الغنم يتبعني كلبنا "سحاب" . و لم أفهم لماذا لا يليق بي البقاء هناك ، فرحت أرقب البيت من بعيد.
كان القوم يفدون فرادى و جماعات ، وبعض النسوة كلما دخلت
إحداهن البيت ارتفع إلي النشيج و النواح . ثم رأيت بعضهم يتجه إلى المقبرة
. ولما ارتفعت الشمس انتصب خط بين البيت و المقبرة لا ينقطع من رائح و غاد
.
وكان شيء ما يحز في نفسي ، أحسست أن نهار اليوم له طعم خاص
، كأنه عرس وليس بعرس ، فيوم ختاني هكذا حصل لبيتنا ، حركة و ناس و نساء ،
لكن مذاق اليوم كئيب ، حتى الغنم بدت عليها حال من الوجوم فكانت ترعى
هادئة ، ومنها التي نامت تجتر في سكون .
حين توسطت الشمس السماء اشتد النواح في البيت ، ارتفع إلي
النشيج فبلغ مسامعي متسقا منسجما كأنه هزيج ، فتحرك في أعماقي البكاء ،
ورأيت القوم يخرجون يحملون شيئا يشبه السلم وضعوا عليه جدتي و قد غطوها
بحائك أحمر و مشوا صوب المقبرة .
كان "سحاب " إلى جواري ينظر معي اتجاه الموكب .وحين اختفوا
عن ناظري أدركت أني حرمت ركوب الظهر المحدودب إلى الأبد ، و أن جدتي ستصعد
إلى السماء ، فهم حملوها على السلم لتصعد به.
عند الأصيل سقت الغنم إلى الزريبة و إحساس عميق من الحزن
يقبض مجامع قلبي . وجدت القوم غادروا بيتنا إلا رجلا يبدو عليه أنه من أهل
المدينة ، حاسر الرأس يمشط شعره إلى فوق ، يتحدث مع جدي و يداه تلعبان في
جيبه بالنقود.
سمعت جدي يقول له :
- كثر الله خيرك يا سي السعيد سنتحدث عن هذا فيما بعد.
و كان الرجر لايصرف نظره عني . عندما استأذن و انصرف وجدت
نفسي مع جدي وحيدين فوق الدكة . كنت أشعر بالجوع ، و هممت بالدخول إلى
البيت ثم تذكرت أني سأجده خاليا من جدتي ففضلت البقاء إلى جوار جدي و أن
أغرق معه في صمته ، غير أنه التفت إلي و همهم :
- هه، ياسعد .
- جدتي ، لماذا ذهبت إلى ربها ؟ من الذي يعد لنا الطعام ؟ من الذي يغسل لنا الثياب ؟ من الذي يحلب الغنم ؟
و أحسست بغضب مفاجئ و قد تكورت غصة كبيرة في حلقي :
- ومع من ألعب أنا ؟
و بكيت ، سالت دموعي غزيرة ، الدموع التي كانت تتجمع منذ
الصبح انسكبت تلك الحظة كالأنهار .ضمني جدي إلى صدره الواسع المليء بالشعر
الأبيض و ردد:
- لا تبك ، أنا الذي أعد لك الطعام و أغسل لك الثياب ، أنا الذي تلعب معه .
و بقيت لحظات أشهق في حضنه ، ولم أكن أحس بالآمان ، هيهات
أن أحس ذلك ، ضاعت جدتي ، وربما أحس جدي مثلي ، فلقد كانت لحيته ترتعد فوق
رأسي .
وكان المساء ظلاما في قلبي.
...........................................
وظلت صورة جدتي محمولة على الأكتاف ، مغطاة بالحائك الاحمر، لاتبرح عيني ،وجهها وقد تصلب ، صوتي الذي رددته جدران البيت ...
في الليل كنت ألتصق بظهر جدي ، أخاف أن تدخل علي جدتي بحائكها الأحمر و عينينها المطفأتين .
وكانت حسرة عارمة في قلبي ، كيف تحولت جدتي - نبع الحنان الدافق- إلى ذلك الكائن المرعب ؟
لم أطلع جدي على مخاوفي ، كان سينهرني لأن الرجل لا يخاف ، و أنا رجل في نظره.
كنت أخاف الليل ، أخاف الذئاب حين تتعاوى و تتنادى، أخاف نباح كلبنا "سحاب" حين يتغير صوته بالليل .
وكان جدي يحاول أن يصنع مني بطلا ، كان يقسو علي من غير
هوادة ، يعلمني كيف أغسل ثيابي و كيف أخيطها ، كيف أعد الدراهم ، كيف أكون
حذرا إذا ما نبح « سحاب " في الليل، فأخرج ولو مرة واحدة أتفقد الغنم .
كان يأخذني معه إلى السوق ، ندورفي رحبة الغنم ، يغرز أصابعه الخشنة في ظهر الكبش ، ثم يساوم البائع في غلاظة :
- كم أعطوك في هذا ؟
- خمسين .
- بع ، ستحمى الشمس و تنفض السوق .
و أتساءل مع نفسي ، ما دخل جدي في الرجل ؟
و يلتفت إلي :
- الغنم غالية اليوم يا سي سعد ، السوق القادم نأتي بالكباش .
نشتري مؤونة أسبوع من قهوة و سكر و زيت و غيرها ، ثم نعرج
على مقهى متطرفة ، فيجلس جدي إلى أناس لا أعرف منهم إلا سي السعيد الذي
بقي مع جدي إلى المساء يوم موت جدتي . يتحدثون ساعة ثم يستأذن جدي ونعود
إلى البيت على البغلة الشهباء ، نخرجها من الإصطبل العمومي محملة بأغراض
الأسبوع ، يردفني خلفه و ينخرط في حديث متشعب مع جماعة المتسوقين يقطعون
به الطريق ، و أنشغل أنا بعد أعمدة الهاتف المتسلسلة مأخوذا بحفيف الأسلاك
و بتلك الفناجين المرصوصة في رؤوس الأعمدة !! من يشرب بها القهوة ؟
حتى إذا وصلنا كانت المسافة التي قطعناها قد أنهكت قواي فيعفيني جدي يومها من مشاركته أشغاله.
وكانت الأيام الأخرى تتكرر، أخرج بالغنم صباحا مع "سحاب "
إلى المرج ، ويبقى جدي يعمل بالبستان ، أو يكنس الزريبة ، و يعد الغداء .
حتى إذا انتصف النهار جاءني يسوق معي الغنم إلى الزريبة.
كانت الأيام بلا طعم ، في المرج مع الغنم تنقبض روحي ،
يزيدها انقباضا مشهد الغربان تحوم على مقربة مني ، ثم تحط بعيدا على هضبة
جرداء .
كنت أكره الغراب ، أود لو أمسك يوما غرابا فأحرقه ،إذ كان
يخيل إلي أن الغراب كائن شرير ، و أنه حين ينعب إنما يريد أن يقول شيئا ما
، شيئا لا أعرفه بالتحديد ، ولكنه شيء كريه لا يطاق .
و سألت جدي مرة :
- ما الذي يقوله الغراب عندما ينعب ؟
فتذمر قائلا:
- وهل أنا سيدنا سليمان حتى أفهم لغة الطبر ؟
ثم أمسكني من أذني :
- اسمع أيها الأحمق ، دع عنك الأسئلة الفارغة ، اسألني عن
الأمور الهامة ، عن القيمة التي يبلغها الكبش في السوق القادم مثلا ، عن
الأنسب ، بيع الكباش أم النعاج ؟ حدثني حديث الكبار يا سعد.
و لما أرخى أصبعه كان ظفره قد انغرز في لحمة أذني ، تدفق الدم غزيرا فاندهشت ولم أبك .
ابتسم و قال في زهو :
- هكذا أريدك شجاعا ، اذهب اغسل أذنك.
كان جدي يقتل في طفولتي بمطرقة من خشب ، تماما كما يفعل
بالعجل عندما يقتل فحولته كي يغدو ثورا . و مع ذلك كنت أحبه ، لم يكن في
وسعي إلا أن أحبه ، كان الإنسان الوحيد في حياتي ، لم أكن أعرف من العالم
إلا جدي و "سحاب" و الغنم .
كانت المدينة القريبة منا عالما مستغلقا لا أدخله إلا أيام
السبت مع جدي . أما القرية المتوسدة سفح الجبل فكانت لي دائرة غامضة ، أرى
فيها أطفالا يتسلقون الشجر يصيدون أفراخ العصافير ، ولم أكن أقترب منهم .
كان البيت المبتدأ و المرج المنتهى ، بينهما الجدول و بستان جدي .
كانت القرية تجذبني بسحرها ، بأطفالها ، بضبابها الفضي و
خضرتها الداكنة ، أهيم وجدا إذا أصبح الضباب يلف القرية بغلالته الشفافة ،
تأخذني نشوة غامضة فأود لو يخلق لي الله جناحين فأطير مع العصافير أحوم
حول القرية ، فوق المدينة . كنت أحب العصافير ، أتخيلهم ملائكة الجنة التي
حدثتني عنهم جدتي فطوم إذ قالت لي بأن للملائكة أجنحة مثل العصافير ،
فأثارت في حبا مبهما للطير .
كان جدي يتضايق من وقوفي الطويل صباحا أمام الجدول مستقبلا القرية فيصيح بي :
- دع عنك الخمول ، يجب أن تكون شاطرا ، أن تكون كالمقص في يد الحلاق الماهر.
كان قاسيا معي مثل المحراث ، مثل يديه المشققتين .
وتذكرت وعده لي عشية الرجوع من دفن جدتي بأنه سيكون الذي ألعب معه فامتلأت ثورة على إخلافه الوعد .
كان عالمي موحشا ، و بروحي انقباض ، وبالغ جدي في قسوته
حتى كدت أتخيله الرجل الشرير الذي يمكن أن يكونه الغراب . ربما أخفى وراء
قسوته رحمة و حنانا ، لكن المؤكد عندي أن الأمان ضاع منذ أن غاب الظهر
المحدودب إلى الأبد.
الإثنين مارس 02, 2015 1:18 am من طرف الشامخ الكثيري
» دعــــاء
الأحد يناير 04, 2015 4:37 pm من طرف ريتاج
» شرح كيفيه دخول رومات الشات عن طريق برنامج النمبز nimbuzz من جهاز الكمبيوتر
الجمعة أكتوبر 12, 2012 7:01 am من طرف زمن المصالح
» توقف القلم
الخميس ديسمبر 22, 2011 1:26 pm من طرف دمعة فرح
» معلــــومه+صورة لنتشارك
الثلاثاء ديسمبر 20, 2011 8:47 pm من طرف دمعة فرح
» رحيلك ياأمي
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 6:41 am من طرف دمعة فرح
» اهنيكم بعيدنا الفطر السعيد
الثلاثاء أغسطس 30, 2011 9:43 am من طرف دمعة فرح
» حنظله غسيل الملائكه رضى الله عنه
الثلاثاء يوليو 19, 2011 5:28 pm من طرف دمعة فرح
» اي نوع قلمك ؟؟؟
الخميس يونيو 09, 2011 1:53 pm من طرف دمعة فرح
» ترويض الكلب ( قصيرة )
الإثنين مايو 30, 2011 6:56 am من طرف ماهر طلبه